إن حبس المال عن التداول والكف عن الإنفاق في جميع أوجه الحياة الإنتاجية والاستهلاكية من شأنه أن يفسد التوازن المالي والتجاري والاقتصادي ويفسد معه التوازن الاجتماعي وبالفعل يعتبر الاكتناز عقبة أمام التنمية الاقتصادية في الدول النامية، فقد أبرزت دراسات بعض الخبراء في الأمم المتحدة: أن نسبة الاكتناز في بعض الدول النامية تصل إلى حوالي (10%) من الدخل القومي، وبصفة خاصة في دول جنوب شرق آسيا، ودول الشرق الأوسط. إذ أن اقتطاع هذا الجزء واكتنازها إما في صورة نقود أو مصونات أو أي من السلع أو الصور الأخرى للاكتناز يحرم التنمية من دفعة مالية تنشطها، وقد توعد المولى ــــ عزوجل ــــ المكتنزين في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾(التوبة: 34-35) ولذا يجب ألا تصبح مسئلة الكنز شخصية أو فردية يترك حسابها إلى الله في الآخرة، يوم تكوى الجباه والجنوب والظهور؛ بل يجب أن تصبح مسئلة تشريعية تطالب الدولة المسلمة بمنعها عن طريق التشريع وعن طريق التنفيذ، وقد احتج بعض من رجال الدين ذات يوم بالقول “ما أديت زكاته ليس بكنر” للتدليل على أن حق المال هو الزكاة وحدها، وأن لا حرج في الكنز بعد ذلك، ولكن هناك حديثا صريحا يبين حدود الكنز، ويبين فيما يحتفظ بالباقي بعد الزكاة، حتى لا يكون كنزا، ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (من جمع دينارا، أو درهما، أو تبرا، أو فضة، ولا يعده لغريم، ولا ينفقه في سبيل الله، فهو كنز يكوى به يوم القيامة).
وذهب البعض، ومنهم سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه (ما كثر من المال فهو كنز وإن أديت زكاته) وبناء على هذا الرأي فإن المال يجب أن ينفق في سبيل الله أو يوضع في المشاريع الاقتصادية ليخرج عن كونه كنزا.
وعن أبي سعيد الخدري، عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له ….) يقول أبو سعيد فذكر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصناف من المال غير الظهر والزاد حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل، وإن الظهر والزاد لم تذكر على سبيل الحصر وإنما ذكرت على سبيل المثال كما هو معلوم، ويحرم الادخار أيام الشدائد والأزمات التي تتعرض لها الأمة، وقد وصل الأمر ببعض الصحابة إلى القول بتحريم الادخار دائما وتحديد الكنز: بأنه ما زاد عن حاجة يومك في كل الأوقات.
ومن الآثار السلبية للاكتناز انتشار الربا وما يحدثه من أزمات اقتصادية، وقد ظهرت في فترات تاريخية متباعدة محاولات متفرقة للقضاء على ظاهرة الاكتناز، والاقتراض الربوى، وقد أتت بنتائج جيدة ولكن سرعان ما اجهضت هذه المحاولات، ومن الطبيعي أن يحارب مثل هذا النظام الذي يقضي على الفائدة الربوية وعلى طبقة المرابين التي تعمل على تجميع المال، واكتنازها بهدف الحصول على أغلى فائدة النهي عن الشح: قال تعالى ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(الحشر:9) وقال تعالى ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾(آل عمران:180) وقال عليه الصلاة والسلام (ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع واعجاب المرء بنفسه) وقال (اللهم إنى أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر) .
وقال كعب: ما من صباح إلا وقد وكل بعد ملكان يناديان اللهم عجل لممسك تلفا وعجل لمنفق خلفا، وقال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم) وقوله: (فإنه أهلك من كان من قبلكم) يحتمل أنه يريد الهلاك الدنوي والمسبب له وهو شحهم على حفظ المال، وجمعه وازدياده، وصيانته عن ذهابه فى النفقات فضموا إليه مال الغير صيانة له، ولا يدرك مال الغير إلا بالحرب والعصبية المفضية إلى القتل، واستحلال المحارم أو غيرها من الطرق غير شرعية التي تملي القلوب بالبغضاء والكراهية، ويحتمل أن يراد به الهلاك الأخروي، فإنه ينتج عما اقترفوه من ارتكاب هذه المظالم، والظاهر حمله على الأمرين.
والمال إن كان غير متوفر فينبغي أن يكون حال العبد القناعة، وإن كان متوفرا فينبغي أن يكون حاله الإيثار والسخاء واصطناع المعروف والتباعد عن الشح والبخل، فإن السخاء من أخلاق الأنبياء ـــ عليهم الصلاة والسلام ـــ وهو أصل من أصول النجاة، قال عبد الله بن عمرو قال رسول الله ـــ عليه الصلاة والسلام ـــ (خلقان يحبهما الله، وخلقان يبغضهما الله، فأما اللذان يحبهما الله تعالى فحسن الخلق والسخاء وأما اللذان يبغضهما فسوء الخلق والبخل وإذا أراد الله بعبد خيرا استعمله في قضاء حوائج الناس) ويقص لنا القرآن الكريم جزا من بخل بماله عن إعطاء الفقراء والمساكين حقهم فيه، ففي سورة القلم يقص علينا قصة أصحاب الجنة الذين تواعدوا أن يقطفوا ثمارها بليل؛ ليحرموا منها المساكين الذين اعتادوا أن يصيبوا شيئا من خيرها يوم الحصاد، فحلت بهم عقوبة الله العاجلة، قال جل شانه﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ . فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ. أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ. فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ. أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ. وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ. فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ. بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ. قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ. قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ. فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ. قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ. عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ. كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾(القلم:19-33)
والذين يسهرون على جمع المال ولا يقضون وقتا إلا في إنمائه وزيادته لا يعرفون في الدينا مفرح أو محزن إلا في حساباتهم ومدخراتهم في البنوك، فهولا قال فيهم ـــ عليه الصلاة والسلام ـــ (تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض) أخرجه البخاري، أراد بعبد الدينار والدرم من استعبدته الدنيا بطلبها وصار كالعبد لها لينالها تتصرف فيه تصرف المالك ليفالها وينغمس في شهواتها ومطالبها، وذكر الدينار والقطيفة مجرد أمثال وإلا فكل من استعبدته الدنيا في أي أمر وشغلته عما أمر الله تعالى وجعل رضائه وسخطه متعلقا بنيل ما يريد أو عدم نيل فهو عبده.
وفي الشح والتفرقة بينه وبين البخل أقوال منها: إن الشح أشد من البخل وأبلغ في المنع من البخل وقيل هو البخل مع الحرص، وقيل البخل في بعض الأمور والشح عام، وقيل البخل بالمال خاصة والشح بالمال والمعروف، وقيل الشح الحرص على ما ليس عنده والبخل بما عنده.
والبخل داء له دواء وداء، البخل سببه أمران: الأول: حب الشهوات التي لا يتوصل إليها إلا بالمال وطول الأمل، والثاني: حب ذات المال والشغف به وببنائه لديه، وعلاج حب الشهوات القناعة باليسر وبالصبر، أما علاج طول الأمل بالاكثاد من ذكر الموت، وذكر موت الأقران، والنظر في ذكر طول تعبهم في جمع المال، ثم ضياعه بعدهم، وعدم نفعه لهم، وقد يشح بالمال شفقة على من بعده من الأولاد، وعلاج هذا أن يعلم أن الله هو الذى خلقهم فهو رزقهم وينظر في نفسه، فإنه ربما لم يخلف له أبواه فلسا ثم ينظر ما أعده الله ـــ عزوجل ـــ لمن ترك الشح وبذل من ماله في مرضاة الله، وينظر في الآيات القرآنية الحاثة على الجود المانعة عن البخل، ثم ينظر في عواقب البخل في الدنيا فإنه لابد لجامع المال من آفات تخرجه على رغم أنفه، فالسخاء خير كله ما لم يخرج إلى حد الإسراف المنهي عنه، وقد أدب الله عباده أحسن الآداب فقال ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾(الفرقان:67) فخيار الأمور أوسطها وخلاصته على من وجد عند مفضل ما أنفقه في وجوه المعروف بالتي هي أحسن، ويكون بما عند الله أوثق منه بما هو لديه ومن لم يكن لديه مال لزم القنائة.
النهي عن الإسراف يلفت القرآن الكريم النظر إلى أن حرية التملك التي أباحها الإسلام للفرد مقيدة بعدم الطغيان وعدم الإفساد وعدم الإسراف، قال تعالى ﴿كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ﴾(طه:81) وقال ﴿كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾(البقرة:60) وقال ﴿كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ﴾(الأعراف:31) وقد أشارت إلى ذلك الأحاديث النبوبة منها (كلوا واشربوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيله) فليس للإنسان أن يسرف في طعامه أو شرابه أو لباسه وأمور معيشة، ولا يجوز له أيضا أن يقتر على نفسه ومن يحولهم، وعليه أن يتوسط بين الأمرين، وأن لا يجاوز حدود الاعتدال، فقد حرم الله السرف وبسط اليد في المال، كما حرم التقتير وقبض اليد عن النفس بما هي محتاجة إليه، قال تعالى ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾(الفرقان:67) وقال ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَاكُلَّ الْبَسْطِ﴾(الإ سر اء:29) ويطبق المسلم القوامة بين الإسراف والاقتار في حدود سعته المالية وذلك إعمالا لقوله تعالى ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾(الطلاق:7)
ولا خير في مؤمن قد جعل كل همة ومتعة ومقصدة في حياته الدنيا ملء بطنه بما يمكنه الجصول عليه من طعام، حتى لقد ينفق في سبيل ذلك كل ماله وكسبه، وما أصدق قول رسول الله ـــ عليه الصلاة والسلام ــ في وجوب الاعتدال في الطعام! إذ يقول: (نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع) وقال (ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لابد، فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه) وقالت عائشة رضي الله عنها: أول بلاء حدث في هذه الأمة بعد نبينا الشبع، فإن القوم لما شبعت بطونهم سمنت أبدانهم فضعفت قلوبهم وحجمت شهواتهم، وأخرج البيهقي عن عائشة رضى الله عنها قالت: رآني النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أكلت في اليوم مرتين فقال: يا عائشة أما تحبين أن يكون لك شغل إلا جوفك؟ الأكل في اليوم مرتين من الإسراف، والله لا يحب المسرفين، وعند ابن الأعرابي عن عائشة رضي الله عنها قالت: جلست أبكي عند رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ـــ فقال: ما يبكيك؟ إن كنت تريدين اللحوق بي فليكفك من الدنيا مثل زاد الراكب ولا تخالطين الأغنياء ولا تستخلقي ثوبا حتى ترقعيه، وأخرج الطبراني عن جعدة رضي الله عنه أن النبي ـــ عليه الصلاة والسلام ـــ رأى رجلا عظيم البطن فقال بإصبعه في بطنه: لو كان هذا في غير هذا لكان خيرا لك.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن عمر رأى في يد جابر بن عبد الله ــ رضي الله عنه ــ درهما فقال: ما هذا الدرهم؟ فقال: أريد أن أشتري لأهلي به لحما فرموا إليه فقال عمر: أكل ما اشتهيتم شيئا اشتريتموه؟ أين تذهب عنكم هذه الآية ﴿أَذَهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا﴾ (الأحقاف:20)، دخل عمر على ابنه عبد الله ـــ رضي الله عنهما ــــ وإن عنده لحما، فقال ما هذا اللحم؟ قال: اشتهيته، قال: وكلما اشتهيت شيئا أكلته؟ كفى بالمرء سرفا أن يأكل كل ما اشتهاه.
وإذا كان رسول الله ـــ عليه الصلاة والسلام ـــ اعتبر الأكل مرتين في اليوم إسرافا وسيدنا عمر رضي الله عنه اعتبر أكل كل ما يشتهي إسرافا، فما رأيهما فيما يلي: نشرت الصحف الفرنسية في صدر صفحتها الأولى قصة عربي مسلم خسر في ليلة واحدة خمسة وثمانين مليونا من الفرنكات على مائدة القمار، وتقول الصحيفة إن هذا العربي المسلم لم يكتف بهذه الخسارة بل قدم بقشيشا مقداره خمسة ملايين أخرى إلى الفتيات اللاتي كن في خدمته طوال هذه السهرة، وقد حدث في لندن منذ سنوات أن عربيا ركب سيارته الرولز، وأخذ ينتقل بها من حي إلى آخر، وكلما مر على مجمعة من الناس ألقى عليهم من نافذة سيارته بألوف الجنيهات، وبدلا أن تمطر سماء لندن كما هي العادة بردا وثلجا فوجي ألناس بهذه السماء، وهي تمطرهم ذهبا أن عدد القصور التي اشتريت أو بيعت إلى عرب في أنحاء برطانيا هذه القصور المغلقة، والتي لا يسكنها أحد إلا الأسبوع أو يومين فقط، لقد تجاوزت قيمة هذه القصور كما تقول إحدى الصحف ميزانية أكبر دولة في أفريقيا، والعجب أن لأصحاب هذه القصور قصورا أخرى في أي مكان، تصل إليه طائرة أو يصل إليه شاطئه يخت أو باخرة، إن مزرعة خيول السباق في بريطانيا ببلايين الدولارات وأصحابها عرب، عربي مسلم دفع صهرا لأمرة مائة وخمسين مليون دولار واشترى لها سبع سيارات من ماركات مختلفة لكل يوم من أيام الأسبوع سيارة، بالإضافة إلى طائرة تنتظر كلمة منهما أو إشارة.
رجل يتزوج من ممثلة ويجهز شقتها بإثنين وعشرين مليون جنيه، ويضع تحت تصرفها ست سيارات من كل جنس ولون، عربي ذهب إلى عاصمة أوربية في طائرة خاصة (جامبوجت) كانت الطائرة كلها مشحونة بالخدم والحشم ومئات الحقائب وعشرات المرافقين، رجل ذهب إلى أحد مسارح باريس قد أراد المسرح خاليا من المتفرجين لمزاجه الخاص ودفع ثمن مئات التذاكر مضاعفا ليخلو له الجو مع الممثلات والممثلين، وفي لندن ذهب واحد من هؤلاء إلى محل مشهور كبير بعد أن أغلق، فطلب من المدير أن يفتحه واشترى في وقت قصير ضعف ما باعه المحل في اليوم كله، ولكن بثمن مضاعف وبأجر مماثل للموظفين الذين استدعوا من بيوتهم في يوم بارد وعاصف، وغيرها من أوجه السرف كثير وكثير يخجل المسلم الحق عن روايتها وكتابتها.
عموما فإن الإسراف والاقتتار يؤدي كل منهما إلى أضرار اقتصادية واجتماعية، بالإضافة إلى الأضرار الصحية والنفسية، التي تصيب السرف أو الترف ومن حولهما، فضلا عن حرمانه حق غيره فيما رزقه الله، ومن هذه الأضرار الاقتصادية حدوث التضخم وما يتبعه من غلاء الأسعار وحدوث التفاوت في الدخول وإضرار أصحاب الدخول المنخفضة، أما في حالة الاقتتار فيؤدي إلى حدوث الكساد، وما يستتبعه من هبوط الانتاج والاستغناء عن العمالة وحدوث البطالة.
أما الأضرار الاجتماعية فإن المترفين لا يستجيبون لدعاوي الإصلاح، بل يعارضونها ويقاومونها ولذلك فهم يتأولون رسالات الأنبياء ويكذبون بها، ويؤدي الإفساد والصد عن دعاوي الإصلاح وتكذيب الأنبياء إلى هلاك البلاد في الدنيا والعذاب في الآخرة، وتوضح لنا ذلك الآية الكريمة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ﴾ (سبا:34) كما نص علينا القرآن أخبار من ذهبت ريحهم قبلنا ونقل هلاكم في الدنيا وعذابهم في الآخرة، بأنهم (كانوا قبل ذلك مترفين) وقال عنهم (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين) والمترفون كانوا على مدار التاريخ من أسباب وعلامات انهيار وهلاك المجتمعات والشعوب، قال تعالى ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ (الإسراء:16)
هذا والترف لا يقوم إلا على حساب الشظف في فريق كبير من أبناء الأمة فعن دماء الجماهير وجهودها ومن ضرورياتها وحاجاتها يستمد هذا النفر المترف لذاته وكمالياته.
ولما كان و جود فرائض المال في أيدي المترفين دافعا لنفاقها على موائد الخمر والميسر ومضاجيع البغايا أوجب الإسلام أن تحد الدولة من إسرافهم، وتهذب من سفههم، وتقيد من طغواهم، وترد من فضول أموالهم على الفقراء والمحرومين والأيتام بدلا من مصارفها تلك الخبيثة الحرام، حيث (مبدا سد الذراع) يتدخل هنا، ويفرض على الدولة أن تنزع من أيدي المترفين سلاحهم في الفساد والإفساد.
فمبدأ سد الذراع هو مبدأ الوقابة من الاحتمالات المنتظرة وهو الذي يحرم الوسيلة إذا كانت تؤدي إلى غاية محرمة، ولو كانت هذه الوسيلة بذاتها غير محرمة، ووجود المال الفائض في أيدي هؤلاء هو الوسيلة التي يجب منعها اتقاء للعاقبة.
الحجر على السفيه: الحجر في اللغة التضييق والمنع، ومعناه في الشرع منع الإنسان من التصرف في ماله، والحجر ينقسم قسمين: الأول: الحجر لحق الغير، مثل الحجر على المفلس فإنه يمنع من التصرف في ماله محافظة على حقوق الغرماء، فقد حجر الرسول ــ عليه الصلاة والسلام ـــ على معاذ، وباع ماله في دينه، فمن له مال، ولكنه لا يفي بديونه، فإنه يجب على الحاكم أن يحجر عليه متى طلب الغرماء أو بعضهم ذلك منه حتى لا يضر بهم، وله أن يبيع ماله إذا امتنع عن بيعه ويقع بيعه صحيحا، لأنه يقوم مقامه،
الثاني: الحجر لحفظ النفس مثل الحجر على الصغير والسفيه والمجنون؛ فإن في الحجر على هؤلاء مصلحة تعود عليهم بخلاف العكس، ويحجر على السفيه البالغ لسفهه وسوء تصرفه، قال تعالى ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً﴾ (النساء:5)، دلت الآية على جواز الحجر على السفيه، قال ابن المنذر: أكثر علماء الأمصار يرون الحجر على كل مضيع لماله صغيرا كان أم كبيرا.
وفي نيل الأوطار، قال في البحر: والسفه المقتضي للحجر عند من أثبته هو صرف المال في الفسق أو فيما لا مصلحة فيه ولا غرض ديني ولا دنيوي كشراء ما يساوي درهما بمائة، لا صرفه في أكل طيب، ولبس نفيس، وفاخر المشموم، وكذا لو أنفقه في القرب.
وسنستعرض آراء المذاهب الأربعة في الحجر على السفيه:
الحنفية قالوا: يعرف السفيه هو الذي لا يحسن إدارة ماله فينفقه فيما لا يحل، وفي البطالة، ويعمل فيه بالتبذير والإسراف، ومن الإسراف الموجب للحجر دفع المال إلى المغنيين واللعابين وشراء الحمام والديكة ونحوهما بثمن غال (فيه) وصرف الأموال في المغامرة وغير ذلك من الإنفاق في غير ما يقتضيه العقل والشرع وكذلك إذا أنفق ماله كله في عمل من أعمال الخير كبناء مدرسة أو مسجد أو غيرهما، فإنه يعد سفيها ويحجر عليه؛ لأن الله ــ تبارك وتعالى ــ إنما كلف الإنسان بعمل الخير إذا كانت حالته المادية تسمح بذلك بحيث لا ينفق ماله ويفلس من أجل الخير .
المالكية قالوا: السفه هو التبذير وعدم حسن التصرف في المال فمتى اتصف الشخص بذلك سواء كان ذكرا أو أنثى فإنه يكون مستحقا للحجر عليه.
الشافعية قالو: السفيه هو المبذر في ماله وهو الذي ينفقه فيما لا يعود عليه بمنفعة عاجلة أو آجلة كأن يقامر أو ينفقه في اللذات المحرمة المضارة بالبدن والعرض والدين، كالزناء وشرب الخمر، أو ينفقه في المكروهات، كأن يشرب به الدخان أو يضيعه بسوء تصرفه، كأن يبيع ويشتري بالغبن الفاحش، إذا كان لا يعلم به، أما إذا تساهل في بيعه وشرائه، وهو عالم، فإن ذلك لا يعد بسفه لأنه يكون من باب الصدقة، وكذلك إذا أنفق ماله في وجوه البر والخير، كبناء المساجد والمدارس والمصحات والتصدق على الفقراء والمساكين، فإنه لا يكون بذلك سفيها، بل لوأنفق ماله في اللذات المباحة كالملبس والمأكل والمشرب، ولو توسع في ذلك بما لا يناسب حاله، فإنه لا يعد سفيها ومثل ذلك ما إذا أنفقه في التزوج ونحوه من كل متاع حلال؛ فإنه يكون قد أنفقه في مصرفه؛ لأن المال خلق لينفق في الخير وفي الاستمتاع بما أحله الله.
الحنابلة قالو: السفيه هو الذي لا يحسن التصرف في ماله فإذا كان الشخص البالغ سفيها لا يحسن التصرف فإن الحجر عليه يكون من حق الحاكم.
والرأي الأكيد من كل ما سبق أن الإسلام شرع الحجر على التملك الفردي إذا أنفق المال المملوك في الفساد والانحلال، واستعمل في الخمر والزنا والقمار والجري وراء الشهوات والملذات على النحو الذي ذكرناه سالفا، والأصل في ذلك قوله تعالى ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا﴾ (النساء:5)، وفي تعبير القرآن ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ﴾ إشارة إلى أن الانتفاع بهذا المال هو من مصلحة المجتمع، ففي حالة السفه يجب أن يمنع عن صاحبه ويشغل لما فيه نفع المجتمع، ولا يجوز دفعه له إلا إذا أنسنا منه رشدا أو بارقة من صالح، فلا يعقل أن تضيع أموال المسلمين بهذا العبث بينما هناك من يموتون من الجوع والمرض لا يجدون بضع قروش لسد جوعهم وعلاج أمراضهم.
الصحوة الإسلامية
المزيد مثل هذه المقالات الاشتراك الصحوة الإسلامية