زجاجة المصابيح من أهم الكتب الحديثية التي ألفت في شبه القارة الهندية بصفة خاصة، فهي من المآثر الهندية التي لا يستهان بها، حذا مؤلفها حذو الخطيب التبريزي في مشكاة “المصابيح” فما أدى إلى الاقتباس من الآية الكريمة: ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾ (النور: 35)
لما كان في كتاب مشكاة المصابيح سلك التبريزي والبغوي معاً مسلك السادات الشافعية، وانحازا إليه بالتالي طبعيًا إلى حد كبير، فاته كثير من الأحاديث التي تمسك بها الآخرون من أهل الفقه والفكر، ولم يستطع أن يستوعب ما استدل به الأحناف بصفة خاصة، وهذا ليس بمستنكر هو الآخر؛ فإن كل من يعتنق فكرًا لم يزل ينحاز إليه في غالب الأحايين، ولكنه فتح ذلك خللا لا يكاد أن ينسد من دون كد وجهد بالغين، فوُسمت الفكرة الفقهية الحنفية المنسجمة مع الوجهة القرآنية والحديثية معًا تمامًا بوصمات يعود وبالها على من قالها، فمن المفتريات التي أثيرت ضد الأحناف قلة الحديث في باب الاستنباط، وضعف التمسك بالنصوص، وعض الرأي بالنواجذ إزاء الحديث المقبول، فأنشأ ذلك كله أن فقد اعتماد طائفة تجهل الحق والحقيقة على ما سلكه الأحناف ووثوقها عليه، وهذا أمر خطير قد شعر بتفاقمها جهابذةُ العلم منذ الزمن القديم كما أحسوا بالحاجة الشديدة إلى جمع الأحاديث على منوال الأحناف بصفة مخصوصة، وإلى تأليف كتاب يتوفر فيه ما يوافقه، لا يجترئ أحد أن يقول: لم تُبذل الجهود بشأن ذلك قط، ولم يتَصدّ لهذا أحد؛ لأن عددًا كبيرًا من فحول العلماء قاموا بالمساعي السامية تجاه الأحاديث النبوية الشريفة تاليفًا وتدريسًا، جرحًا وتعديلاً، بل قلّ علم من علوم الحديث إلا وقد كتب فيه عباقرة أوانه وصيارفة زمانه، ونجحوا في ذلك إلى حد كبير، وكسبوا القبول والإقبال لا يستهان بهما، فمنها: كتاب الآثار، والموطا للإمام محمد، وشرح معاني الآثار للطحاوي، وآثار السنن للنيموي، ومشكاة الآثار للديوبندي، وإعلاء السنن للتهانوي إلى غيرها من الكتب القيمة، هذا كله يعكس مدى اعتناء الحنفية بالحديث والتضلع في الفقه عكسًا صحيحًا، كما يعيد إليه الاعتبار والاعتماد، ويظهر أن السادات الأحناف هم الآخرون يستندون في فقههم ومذهبهم إلى الأحاديث، وأنهم يقدمون الحديث ولو كان ضعيفًا، ولكن الحقيقة التي لا تنكر أن كل ذلك كالصخرة في جنب الجبل الطويل بالنسبة إلى مشكاة المصابيح وحدها، فاضطر ذلك مؤلف الزجاجة إلى استدراك كتاب التبريزي، فاختار في كتابه لمنهجه ما اختار صاحب المشكاة من الوضع والترتيب، والتبويب والتفصيل، وزاد في بداية الباب وأثناء سرد الأحاديث مارآه أن يستدرك كما زاد إلى إحالة الحديث كتبًا، تم تأليفها بأيدي الأحناف بصفة أخص.
الباعث على التأليف ومحدثه الجليل
إن الأمر السارّ المشير للانتباه أن تأليف الكتاب تم بأيدي عالم كبير متقن للموادّ الدراسية وهو هندي مولدًا وموطنًا، ومدفنًا أعني به فخر المحدثين أبا الحسنات السيد عبد الله شان المنتمي إلى الطائفة النقشبندية في التصوف والسلوك، والمنتسب إلى الأسرة المجددية، محدث دكن، ابن السيد الشيخ مظفر حسين الحيدرآبادي، وهو في نفس الوقت مدرس ناجح، وخطيب بارع، ومفسر خبير، قد انتشر صيته في التفسير طول الولاية وعرضها، وكتابه “تفسير سورة يوسف” قد نال في الأوساط العلمية القبول والاعتماد، وكسب ود الناس وحبهم كما يزيده شأنا انتماؤه إلى الطريقة النقشبندية المجددية عملاً وسلوكاً، فأصبح مصداقا حقا لحديث ذكره على المتقي في كنز العمال عن ابن عباس ـــ رضي الله عنهما: “خير جلسائكم من يذكركم الله رؤيته وزاد في علمكم منطقه وفكركم الآخرة عمله”. (كنز العمال” (23764)
ولكن سرعان ما ألحق “محدثا” باسمه هوكتابه “زجاجة المصابيح” على طراز مشكاة المصابيح، والباعث علي تأليف هو شغفه بالحديث الذي لا يعرف مداه وسره إلا من ذاق حلاوته وطعمه، والثاني: الشعور بالحاجة الشديدة لمثل هذا الكتاب كخدمة للأحناف، ولم تتحقق أمنية هذه حتى رأى رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ فيما يرى النائم وقال: سلامًا، فضمه رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ إلى صدره وعانقه، فأنار كل ما كان يختلج في صدره منذ مدة طويلة، وأصبحت هذه الرويا الصالحة باعثة قوية على تحقيق المأمول وتيسير العسير، وشرح الصدر على العمل الجليل، فلم يلبث إلى أن صمم العزم بالتأليف، وشد الميزر عن الساق، وبالغ في التنقير والتنقيح ما لا نظير له وواصل ليل نهار، فاستطاع أن كشف الغطاء عن من يقدح في قول أبي حنيفة النعمان، وعن من يطعن في مسلكه النجيح المختار، يقول المؤلف في مقدمة كتابه:
“ما وضعت فيه حديثًا إلا صليت على النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ فالحمد لله على ذلك”.
فكأنه ذكّر صنيع الإمام البخاري في تأليف صحيحه.
بالمناسبة نتأكد أن هذا يرجع فضله كله إلى الفكرة التي اكتسب فيضها وهي الفكرة التي تتصل إلى مسند الهند الشاه ولي الله المحدث الدهلوي، فكم من غليل وعليل استقى من هذا المنهل الصافي، وروي، وكم من وارد وصادر أخذ من هذا المورد وشبع، قد عم نفع هذا الفكر وقاد هو في الآخر الأمة الهندية بصفة خاصة في كل مكان وزبان، ومَن أخذ بالعروة الوثقى هذه فاز في الختام، وليس ذا إلا أنه ينسجم تمام الانسجام مع ما سلكه الصحابة والتابعون الخيار، فالمؤلف تخرج على يدي الشيخ عبد الرحمان الأنصاري وهو ابن الشيخ أحمد علي الأنصاري السهارنفوري الذي له عناية فائقة بنشر الكتب الحديثية، وتلمذ لديه الفحول والجهابذة من العلماء، منهم الإمام النانوتوي مؤسس الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند كما تلمذ لديه ابنه الشيخ عبد الرحمان الأنصاري، فالمحدث السهارنفوري هو مدار الإسناد الذي يوصل السلسلة إلى مسند الهند الشاه ولي الله الدهلوي ثم إلى رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ.
منهج المؤلف في الكتاب وثناء العلماء عليه
الزجاجة في خمس مجلدات تم تاليفها سنة 1386هـ، فالأول من كتاب الإيمان إلى باب الاعتكاف، ويبلغ عدد صفحاته 539.
والثاني من فضائل القرآن إلى باب النذور، ويبلغ عدد صفحاته 609، والثالث من كتاب القصاص إلى كتاب الرؤيا، ويبلغ عدد صفحاته 471، والرابع من كتاب الأدب (باب السلام) إلى بدء الخلق وذكر الأنبياء ويبلغ عدد صفحاته 425، والخامس من فضائل سيد المرسلين إلى ثواب هذه الأمة، ويبلغ عدد صفحاته 419.
فهذه الصفحات الضخمة أصبحت موسوعة حديثية للدلائل الحنفية الغرّاء، حقًا قد أثبت المؤلف ما بدا له من حكم الحديث صحة وضعفًا، ومن حكم الرواة تجريحًا وتعديلاً، وعزا أكثره إلى أساطين الحديث ورجاله، وأضاف إلى ذلك ما يتم به الاستدلال واقتفى في ذلك الشيخ النيموي في كتابه “آثار السنن” وأشبع الكلام في الحاشية فقها للحكم وشرطا للحديث رجوعًا إلى الكتب المعتبرة في الفن، كما كشف الغطاء عن أقوال السلف تجاه ذاك، ولم يال جهدًا في الإجابة عما يرد على الأحناف ويقدح في مسلكهم، وذلك كله بكل عدل وإتقان دون انحياز وانحراف، فكأنه إعلاء السنن للشيخ ظفر أحمد التهانوني، وضم الأحاديث إلى أحاديث المشكاة بجودة الوضع وحسن الترتيب حتى لم يبق بينهما امتياز وفرق فكأنهما كتاب واحد، واعتنى بصفة خاصة بالأحاديث التي أخرجها الإمام محمد والإمام الطحاوي، والإمام الأعظم أبوحنيفة في مصنفاتهم: الموطاء والآثار، وشرح معاني الآثار، ومسند الإمام الأعظم مع إتقان وبلاغة تصور تصويرًا صادقًا للمشكاة.
كفى به أهمية وخطورة، وابتهاجًا وسرورًا أن أثنى على الكتاب جهابذة العلم ورجال الحديث ثناء بالغا، وزينوا بالسطور القيمة كالتقاريظ للزجاجة نخص بالذكر المحدث الجليل والفقيه عديم النظر في أوانه، والعالم الخبير الشيخ عبد الفتاح أبو غدة صاحب التصانيف الأنيقة والتعليقات القيمة على كتب علم الحديث بصفة خاصة، وذلك في 14/محرم سنة 1374 من الهجرة،
بالإضافة إلى ذلك ما حرّره من انطباعاته الصادقة الفاضل العلام، والأديب البارع الشيخ عبد الماجد الدريابادي مدير جريدة “الصدق الجديد”، وأحد من انتسب إلى الفكرة التهانوية عملاً وفكرًا، وقد نُشر ذا في “الصدق” اليوم التاسع والعشرين من المحرم سنة 1373 من الهجرة.
وكذا ما كتب في شأن الكتاب ومؤلفه فضيلة الشيخ المقرئ محمد طيب القاسمي الرئيس الأسبق للجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند/الهند، الخلف الرشيد للأسرة النانوتوية نسبًا وشرفًا وعلمًا وفضلاً، وذلك اليوم الثامن والعشرين من ربع الآخر سنة 1376 من الهجرة.
هذا كله يعكس عكسًا جميلاً مدى تقديره لدى العلماء وغاية خطورته وأهميته العلمية الحديثية لدى الفضلاء، فالكتاب أحق أن يُضم إلى المقررات الدراسية أو يستفاد منه أثناء درس المشكاة على الأقل.
من ميزات الزجاجة السامية
(1) قد التزم المؤلف أن يذكر لكل باب ما يتعلق به من الآيات الكريمة، وسار في ذلك مسير البخاري في صحيحه.
(2) سلك في جمع الأحاديث وإسنادها إلى الرواة من الصحابة والتابعين وإحالتها إلى من خرجها من المحدثين المشتهرين المعتمدين، وتبويب الكتب والأبواب ما سلكه صاحب المشكاة التبريزي.
(3) قد راعى وجهة الفقه الحنفي في المسائل المختلف فيها تحقيقًا إياه وتاكيدًا له.
(4) جمع لكل مسئلة ما ينوط به من الأحاديث والآثار في موضع واحد، ولم يوزعها على الفصول الثلاثة ففيه خالف دأب التبريزي والبغوي كي لا يشق على القراء التفحص عنها والوقوف عليها فلكل وجهة نظر.
(5) رتب ما يتعلق بالفقه والأحكام ترتيبًا لائقًا فذكر أولا ما كان موافقًا لما أفتي به في المذهب، ثم ذكر ما يؤيده وتتابعه، وقد ذيل أكثر الأحاديث بالنقد على الرواة لينفضح غمام الريب عما هو الحق.
(6) كتب الحواشي في أكثر المواضيع وكشف القناع عن المقاصد الحنفية عزوًا إلى كتبها التي تحتل اعتبارًا واعتمادًا قويًا، ووثوقًا زائدًا، وهذا كله من دون انحياز إلى إفراط وتفريط.
وله مزايا أخرى وخصائص شتى سيطلع عليها من يطالعها وهو شهيد ممن له صلة بالحديث واطلاع على الفقه، وإلمام بعلم الجرح والتعديل، ويضطر بالتالي أن يعترف بفضله وأهميته، فبالجملة ناب الكتاب مشكاة المصابيح في ثوب جديد ولباس قشيب، وأحق أن يقال: إنه مستدرك عليه ومستخرج له، ولو كانت آحاديثه ممتازة عن أحاديث المشكاة في فصل رابع أو بنوع آخر لكان له مكان مرموق زائد مما يحتل الآن. والله أعلم.