الدكتور سعيد الرحمن الفيضي الندوي
رئيس مركز الندوة للدراساتالإسلامية بكندا
علم الحديث في الهند :
إن الهند قد سعدت بقدوم المسلمين مع قائدهم الشاب محمد بن قاسم الثقفي في92 سنة / من الهجرة ونفقت بمجيئهم سوق الكتاب والسنة وازدهرت تحت لواء إمام المحدثين في الهند ربيع بن صبيح السعدي من أتباع التابعين، واهتم أهل الهند بالحديث اهتماماً بالغاً، فلم تخل فترة من فترات هذه البلاد إلا وأنجبت علماء ربانيين وشيوخاً مربيين، منهم أبو معشر نجيح السندهي والإمام حسن بن محمد الصغاني والشيخ علي متقي البرهانبوري والملا محمد طاهر الفتني، وبلغ علم الحديث أوجه في عهد الشيخ المحدث عبد الحق الدهلوي والإمام ولي الله الدهلوي وورثه ابنه الإمام عبد العزيز الدهلوي، وانتشرتلاميذه في أنحاء البلاد كلها، ومن أعيانهم مولانا كرامت علي الجونفوري ومولانا سخاوت علي الجونفوري والمولوي قطب الدين الدهلوي والعلامة أنور شاه الكشميري والشيخ محمد زكريا الكاندهلوي وشيخنا المحدث محمد يونس الجونفوري، هؤلاء ورثة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم أنفذوا كل ما في وسعهم وجادوا بالنفس والنفيس لحفظ الحديث والاستقاء من هذا المنبع الصافي السماوي وعاشوا عيشة القرآن والحديث وتمسكوا به ماداموا أحياءً، فطار صيتهم في العرب والعجم، وطبقت شهرتهم الآفاق، وامتلأت المكتبات بكتبهم ومؤلفاتهم في علم الحديث، ويشهده أهل الذكر والعلم حتى تبدلت الأرض غير الأرض والسماوات، وقال السيد رشيد رضا المصري مدير مجلة “المنار” في مقدمة “مفتاح كنوز السنة” معترفًا بخدماتهم :
“لولا عناية إخواننا علماء الهند بعلوم الحديث في هذا العصر لقضي عليها بالزوال من أمصارالشرق، فقد ضعف في مصر والشام والعراق والحجاز منذ القرن العاشر للهجرة” .
رحمكم الله ـ أيها الأبرار ـ وأسكنكم فسيح جناته التي تجري من تحتها الأنهار. إلى القراء نبذة من حياة الشيخ محمد يونس الجونفوري .
شخصيته الجامعة :
ولا شك أن الشيخ محمد يونس كان شخصية عبقرية نادرة عملاقة فذة قفزت إلى الوجود، وفاجأت الهند ثم العالم العربي الإسلامي بتضلعها ورسوخها وسعة اطلاعها على علم الحديث، فحباه الله القلب الحي والعاطفة الجياشة بالحب لله العظيم ولرسوله الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولدينه القويم، وكان ـ رحمه الله ـ يحمل بين جنبيه نبعًا من حديث رسول الله صلى الله عليه على صاحبه الصلاة والسلام الذي لا يغيض وشعلة لحفظه التي لا تخبو وجمرة للتقدم فيه التي لا تتحول إلى رماد، وكان هذا القلب الحي يعيش أشد حباً لله ولرسوله الكريم ـ عليه ألف ألف تحية وسلام ـ راجيًا من الله وخائفاً من يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، وما زال الشيخ كنانة الإسلام ومصدر العلم والعرفان، وسقى الهند وخارجها من منبع الكتاب والسنة وانخرط بإذن في سلك أولئك الرجال الذين يحملون هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنده تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين .
وكان ـ طيّب الله ثراه ـ منشئ جيل وصاحب مدرسة لعلم الحديث، والمؤلفات التي يتجمل بها تاريخ الإسلام، وكانت تتأجج بين جوانحه عزة الإسلاام وتتوقد في فؤاده كبرياء الإيمان لشاهدة على ذلك، وكان من مراجع الحديث الحية في شبه القارة الهندية وأحد فرسانه .
وقد كان الشيخ ـ رضي الله عنه ـ من تلك العباقرة التي هيأتها القدرة الإلهية وأنبتـته التربية الربانية، وأبرزتها في خير زمان وأفضل مكان، وليس من صنع الرجال وصنع بيئة أو مدرسة فحسب إنما كان من صنائع التوفيق والحكمة الإلهية والغاية بهذا الدين القويم وبهذه الأمة المسلمة وبالغرس الكريم الذي يهيأ لأمرعظيم ولعمل جليل في زمن تشد إليه حاجته .
مولده ونشأته :
هو الشيخ محمد يونس بن الشيخ شبير أحمد، ولد في مدينة الرجال في جونفور يوم السبت 25/رجب 1355هـ المصادف أكتوبر1937م، وقد بدأ الشيخ حياته بدراسة القرآن الكريم على والده فأتمّه في سنّ مبكرة، وقرأ الكتب الأردية في مدرسة بقريته ثم التحق بمدرسة ضياء العلوم في أمائي كلان، فهوابن الثلاث عشر من عمره، وتلقى معظم دراساته الشرعية واللغوية والأدبية هناك، حتى أتم دراسته وتخرج فيها عام 1380هـ، ثم حبب إليه الحديث النبوي، فلازم كثيراً من الشيوخ من المحدثين ملازمة الظل لصاحبه، وكان أبرز شيوخه :
الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي
الشيخ منظور أحمد خان
الشيخ أسعد الله
الشيخ أمير، رحمهم الله رحمة واسعة
تدريسه لصحيح البخاري :
عين أستاذاً في مظاهر علوم في شوال سنة 1382هـ ومازال يجتهد ويرتقي ويتقدم ويسهر على استعداد الدروس وينظر إليه الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي، حتى ولى إلى هذا الشاب الناهض مشيخة الحديث بين شيوخه، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وصار محمد يونس شيخاً ومحدثاً في شبابه، ولعب دوراً هاماً تجاه علم الحديث، يليق أن يكتب بماء الذهب في كتب التاريخ وقد عاني ـ رحمه الله ـ في ذلك السبيل ما عانى حتى أصيب بما حفظ الله منه الأعداء، ولكن الشيخ ثبت ثبوت الراسيات وعطف تيار العاصفات، وربى أجيالاً على منهج السنة وأشرب بلبانهم الكتاب والسنة، وخرج رجالاً وأكفاء هم من رجالات علم الحديث وأعلامه.
ميزات درسه :
إن الأستاذ محمد أيوب من تلاميذ الشيخ محمد يونس يحدث ميزات مجلس شيخه للحديث:
“إنا وجدنا عند شيخنا ما لم نجد عند أحد من المحدثين من لآلي الحديث ويواقيته ومراميه وأسراره كأن مجلسه للحديث بحر زخار تتلاطم فيه أمواج علوم الحديث، وينهل منه من يغوص فيه حسب موهبته ويرتسم في ذهنه أسماء المحدثين والمتكلمين والمفسرين وشراح الحديث، وكان ـ رحمه الله ـ يذكر الراوة وأحوالهم ويوازن أقوال الأئمة ودليل الطرفين وسبب الترجيح ، كأننا نشاهد بأعيننا في وقت ما في فتح الباري والعيني والقسطلاني والكرماني، وذقنا بهذا الطراز ذواق البحث وتعلّمنا به أسلوب القراءة والكتاب، ونجد أكثر المحدثين في شبه قارة آسيا تلاميذ الشيخ وتلاميذ تلاميذه هم يحدثون ويحسنون .
وفاته : رزئت أمة الإسلام الهندية بوفاته في 16/ شوال عام 1438هـ المصادف 11/يوليو 2017م .
افتقده العالم بأسره وافتقده كل من استفاد منه ومن علمه وكتبه، ولا شك أن فقده مصاب جلل وخسارة قادحة للأمة، وثلمة لا تكاد ترتق، وإن وفاته هزت القلوب، وأحزنت النفوس، وأدمعت العيون، وما نقول إلا بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم متأسين برحلة ابن بنته : القلب يحزن والعين تدمع، وإنا (أيها المحدث) على فراقك لمحزونون، تغمّدك الرحمن بواسع رحمته ويسكنك فسيح جناته .
مؤلفاته:
(1) تخريج أحاديث مجموعة أربعين حديثاً .
هذا مجموع من الأحاديث جمعها كل أحد من الشيخ عبد الرحمن الجامي والإمام ولي الله الدهلوي والملا علي قاري، والشيخ قطب الدين، والشيخ عنايت أحمد، والشيخ محمد حسين، وقد قام الشيخ محمد يونس صاحب الترجمة تخريج الروايات التي تخرج من قبل .
(2) فيوض سبحاني
هي خطبة ألقاها الشيخ في مجلس اختتام صحيح البخاري بالجامعة في كهرود/غجرات بمناسبة افتتاح دار الحديث في شعبان 1419هـ، فقيدها محمد حنيف فأصدرتها الجامعة بتصحيح وتحقيق، وله مؤلفات غير بيناه كما يلي :
إرشاد القاصد إلى ما تكرر في البخاري بإسناد واحد .
1- جزء القراءة
2- جزء رفع اليدين
3- جزء المحراب
4- جزء المعراج
5- مقدمة أبي داود
6- مقدمة المشكاة
7- تخريج أحاديث أصول الشاشي
8- جزء حياة الأنبياء
9- جزء عصمة الأنبياء
10- اليواقيت واللآلي
11- مقدمة البخاري
12- ترجمة عبد الله بن زبير رضي الله عنه
13- مقدمة الهداية
14ـ نبراس الساري إلى رياض البخاري
نموذج من تحقيقاته :
سئل الشيخ أن رواية الحديث الضعيف بصيغة قال وروي منهيان، وقال الإمام النووي في كتابه شرح مهذب (ص: 103, 104) إن العلماء الباحثين نهوا عن ذلك، ومن حدث الحديث الضعيف بصيغة قال وروي فكذب، فكيف بالعلماء الذين يحدثون الحديث الضعيف بصيغة قال وروي مع هذا الوعيد الشديد .
الجواب : إن الإمام النووي كتب عن ذلك في مقدمة شرح المهذب (1ـ 63) وأطنب وهذه هي الأصول عند أهل الحديث، وذكر النووي فيها أن كثيراً من العلماء العظام تركوا هذه الأصول، يقول النووي: هذا الأدب أخل به المصنف يعني أبا إسحاق الشيرازي صاحب المهذب وجماهير الفقهاء من أصحابنا وغيرهم، بل جماهير أصحاب العلوم مطلقًا ماعدا حذاق المحدثين ، وذلك تساهل قبيح فإنهم يقولون كثيراً في الصحيح ، روي عنه وفي الضعيف قال ووري فلان ، وهذا حيد عن الصواب ، انتهى .
رحمه الله تعالى الشيخ محمد يونس رحمةً واسعةً وأغرق عليه شآبيب رحمته وأسكنه فسيح جناته وأدخله في عباده الصالحين .